عنوان الموضوع : وفاء النعمة وشكرها - المصدر : أبو مسلم الراهب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي وهبنا نعمه ظاهرة وباطنة ولم يكلفنا شكرها إلا فيما نطيق وشكر لنا سعينا في شكره على تقصيرنا فيه فكان شكره الأكمل، فسبحان من يَتَفَضَّل ولا يُتَفَضَّل عليه نحمده حمدا كثيرا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وبعد.. فإن الله قد أفاض علينا نعمه في الدنيا وادخر لنا أضعافها في الآخرة، ولم يكلفنا –وهو حقه- ألا نفعل بها إلا شكره لعلمه أننا لا نقوى على هذا لعجزٍ وضعفٍ فينا، فأباح لنا التمتع بنعمه كيف شئنا شريطة ألا نخرج عن أمره وشرعه، يقول تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31>، فإن نحن فعلنا لم نكن كافرين بل كنّا مسلمين، وهذا هو وفاء النعمة فإنه لو علمنا أن أحدا أنعم على أحدٍ بشيء ثم استعمل المُنعَمُ عليه هذه النعمة في أذى المنعم أو فيما لا يحبه أو استعان بها على الإضرار به لقلنا أن هذا عين الغدر والخسة فالنفس السوية تستقبح هذا وتنكره وتقبل وتحب الوفاء وتحفظ الجميل، ولكن ثمَّة درجة أعلى من الوفاء وهي الشكر فإن ذلك الشخص لو اكتفى بعدم استعمال النعمة التي أنعمها الآخر عليه في إلحاق الضرر به لم يكن شاكرا له على نعمته بل الشكر أن يزيده فوق الوفاء بأن يتودد إليه بها كالذي يعطي أحدهم مالا فيتاجر ويربح فإن من الشكر بعد أن يرد أصل ماله إليه أن يتودد إليه ويشتري رضاه شكرا له على نعمته التي كان من أثرها ما حصل له من الخير فيتخير أحسن ما يحبه ويهديه له أو يشكره كيفما يوفقه الله إلى الشكر فكذا الدرجة التي فوق الوفاء لله والتي لا يبلغها إلا من وفقه الله إليها وهي درجة الشاكرين الذين يشكرون الله على نعمه وهؤلاء لا يكتفون بالامتناع عن المعاصي إذ هذا أوجب الواجب لكنهم يشكرونه باستعمال نعمه في طاعته فشكر النعمة لا يكون بمجرد القول وإنما بالفعل وباستعملها في الطاعة من واجبات ونوافل وتمام الشكر الإكثار من النوافل بكل صورها، فنعمة كالعقل وفاؤها ألا يستعملها فيما يغضبه وألا يفكر أو يصنع ما لا يرضي الله وأما شكرها فأن يتفكر بها في خلق الله ويتعلم دينه، ونعمة الصحة وفاؤها ألا يستعملها فيما يغضب الله من جور على عباده وشكرها أن يتقرب إلى الله بها من صلاة وصيام فرض ونفل وغيرها من العبادات التي تحتاج إلى الصحة، ونعمة المال وفاؤها ألا يصرفه فيما يغضبه أو يعين على غضبه وشكرها أن يصرفه في الزكاة التي أوجبها والصدقات التي استحبها، ونعمة البصر وفاؤها ألا ينظر إلى حرام وشكرها أن يتأمل في خلق الله وأن يقرأ كتاب الله وأن يستعين بها في طلب العلم وكل طاعة، ونعمة السمع وفاؤها ألا يسمع بها ما يغضب الله وشكرها أن يستمع بها إلى ما يحبه ويرضاه من ذكر ونحوه، ونعمة اللسان وفاؤها ألا يستعمله في معصية كالكذب وشهادة الزور والغيبة والنميمة وغيرها وأما شكرها فأن يقرأ القرآن ويذكر الله ويدعوا إليه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهكذا كل نعمة تجد من الوفاء والشكر أبوابا كثيرة قد نغفل عن كثير منها، وقد طالبنا الله بشُكرِ نعمه وفضله، يقول سبحانه {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 35>، ويقول {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 73>، وقال {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152>، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172>، وقال {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114>، وشَكَرَ لنا شُكرَنا وسعينا في مرضاته، يقول تعالى {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145>، وقد جعل الله تبارك وتعالى أفضل الشكر عبادته وتوحيده إذ هما أصل كل شكر ولا يقبل شكر دونها، يقول سبحانه {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65، 66>، ويقول جل وعلا {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144>، وقال {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144>، وجعل شكره لشكرنا أن زاد إنعامه علينا بنعم الدنيا ووفقنا إلى طاعته وشكره ونجّانا من مصائب الدنيا وجعل لنا في الآخرة أم النعم "الجنة"، يقول تبارك وتعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7>، ويقول سبحانه {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر: 34، 35> ، واعلم أخي الحبيب أننا عن الوفاء بنعم الله عاجزين فنحن عن شكرها أعجز لأن نعمه في ذاتها أكبر من أن ندركها بوفاء أو شكر وكيف يوفي عبد خاضع ذليل مسكين فقير ربه العزيز الغني خالق الخلق ومالك الملك العظيم المنعم، وإنما يكون شكرنا له تبارك وتعالى طلبا للنجاة ولرضاه فهو الغني عن وفائنا وشكرنا، يقول سبحانه {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40> ولو تجاوزنا وقلنا أننا على الوفاء والشكر قادرون مع الله كما نحن قادرون مع الناس لما تحقق هذا لأن السعي في الوفاء والشكر وما يترتب عليه كله نعمة من الله، يقول الشاعر: إذا كان شكري نِعمَةَ الله نعمةٌ = عليَّ له في مثلها يَجِبُ الشُّكرُ فَكَيفَ بُلوغُ الشُّكرِ إلَّا بِفَضلِهِ = وإن طالَت الأيامُ واتَّصَلَ العُمرُ فلا احتمال لوفائه حق الوفاء ولا شكره حق الشكر لكن ما لا يدرك جله لا يترك كله، وإنما نحن نفعل ما نستطيع وما في وسعنا {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286>، فنسأل الله أن يعيننا على الوفاء بنعمه وأن يلهمنا ويوفقنا إلى شكرها كما يحب ويرضى وأن يتقبل منا.
أبو مسلم الراهب
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire