Example
أسد إفريقية
محمود محمد شاكر
إلى أسد إفريقية الأمير/ محمَّد بن عبد الكريم الخطَّابي.
السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، وبعد:
مَلأَتْ فَضَائِلُكَ البِلاَدَ وَنَقَّبَتْ *** فِي الأَرْضِ يَقْذِفُهَا الْخَبِيرُ إِلَى الْعَمِي
فَكَأَنَّ مَجْدَكَ بَارِقٌ فِي مُزْنَةٍ *** قِبَلَ الْعُيُونِ وَغُرَّةٌ فِي أَدْهَمِ [1]
وَالْيَوْمَ مُقْذٍ لِلْعُيُونِ بِنَقْعِهِ [2] *** لاَ يَهْتَدِي فِيهِ البَنَانُ إِلَى الْفَمِ
لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شِفَافَةٍ مِنْ شَمْسِهِ *** كَمَضِيقِ وَجْهِ الْفَارِسِ الْمُتَلَثِّمِ
فأنتَ -أبقاك الله ومتَّعك بالعافية- قد كنتَ في تاريخ العرب الحديث نفحةً علويَّة مِن مجد آبائنا الغُرِّ الميامين، وكنت في ضمير كلِّ عربي صدًى للأماني البعيدة، التي لا تزال تُردِّدها دماؤنا في أبداننا العربية الحيَّة، وكنتَ قبسًا من فضائل أسلافنا يُحدِّث عن نفسه بلسان عربي مبين، وكنتَ برهانًا جديدًا لأهل البغي على أنَّ العربي لا يذلُّ أبدًا، ولا ينام على الضَّيْم يُراد به.
ثم كَتَب الله لكَ بعدَ عشرين سَنَة من الأسْر أن تعود -كما كنت- عربيًّا حرًّا، حَميَّ الأنف، ذكيَّ الفؤاد، تأنف لأمَّتِك وعشيرتك أن يروا ميسمَ ذُلِّهم وهوانهم على جَبينٍ أكرمه الله بالنَّصر مرَّة، وامتحنه بالأسْر تارةً أخرى.
فعِشْ في حِمَى مصر أيها الرجل، أميرًا على قلوب مليون نَسَمة من العَرَب، وأربعمائة مليون مِن المسلمين، وجزاك الله عمَّا قدَّمتَ للعرب أكرمَ جزاء وأوفاه.
كنتُ يومئذٍ في العقد الثاني مِن عمري، شابًّا ينبض بيْن جنبيه قلْب يتلفتُ إلى مجْد آبائه، ويحنُّ إلى تاريخهم حنينًا طويلاً كأنَّه لوعة ثكْلَى على وحيدها، وكانتْ مصر كلُّها لا تزال تُرسل الصرخةَ إِثر الصرخة طالبةً أن تنال في الحياة حريتَها، التي استلبَها البغاةُ الطغاة؛ شياطينُ الأرض.
وكانت الدِّماء في أبداننا تريد أن تُطْفِي ظمأَ الأرض المصريَّة بما يَجري على ظهرها مِن دِماء الشهداء، حتى تمحوَ عارَ الاحتلال عن هذه الأرْض المطهَّرة، ولكنَّ زعماءَنا أَبَوا إلا السلم، وطمعوا أن ننال حقَّنا بالمفاوضة؛ أي: بخديعة الغاصِب، حتى ينخدعَ لنا فيترك لنا ما سَلَب.
ثم أصبحنا يومًا، فإذا بنا نسمع عن (أسد الرِّيف) الذي هبَّ من غابِه، ونفض نواحيَه، وزمجر واجتمع للوثْبَة، وإذا هو يضرب يمينًا وشِمالاً، لا يدع للأسبان متنفسًا، حتى اضطرهم إلى أقبحِ مواطن الذُّلِّ تحتَ قدميه، وأوردهم شرائعَ العار شَلاًّ[3] وطردًا، حتى سجدتْ له تلك الجباه المتغطرِسة في حمأةٍ مِن الضراعة والذُّل.
كانوا يريدون أن يسوموا أهلَ "مراكش" أن يسجدوا لهم في مثلها، فأبيتَ إلاَّ أن تُعرِّفَهم أقدارهم تحت هاتيْن القدمين الطاهرتَين النبيلتَين، فأتمَّ لك اللهُ النصرَ عليهم كما شاء.
ثم أراد الله أن يُعرِّفنا ويعرِّفك أنَّ أنذلَ من النذل ناصرُه على نذالته، فهبَّتْ إليك تلك الدولةُ الأخرى المعروفة باسم فرنسا، وهي يومئذٍ ثانية أُمم الأرض، فألَّبَتْ عليك جيوشَها وجحافلها (وبيتانها)[4]؛ وفزعوا إلى نُصرة الأسبان المهزومين، وظلُّوا يستجيشون عليك - أنتَ الضعيف الفَرْد - كلَّ ما آتاهم الله مِن بسطة في العِلم، وقوَّة في البأس، حتى غلبوك على أمْرك، ثم خدعوك، ثم غدروا بك، ثم نفَوْك على عادتهم مِن فساد الطويَّة، وحقارة الفِعْل.
فأصبح كلُّ عربي على ظهْر الأرض يحسُّ أنَّه الأسير المنفي المغدور به، وانطوتْ قلوبنا على بُغْض لا ينام لهذه الأُمم التي لا شَرَف لها، ولا ذِمَّة ولا عهْد.
ثم تَقضَّت الأعوامُ، وشارفتُ الأربعين، وإذا أنت حرٌّ طليق في أرْضي وبلادي، فما كدتُ أسمع ذلك حتى انطوتْ أيامي، وعدتُ كما كنت في نحوِ العشرين، شابًّا يحسُّ دماءه تغلي لهذا النبأ، كأنَّني انطلقتُ من الأسْر، وخرجتُ من المنفى؛ لأعيشَ حرًّا طليقًا، كما تعيش أنت اليومَ في مصر.
ومصر هي أُمُّ المروءات، فإن ساء ذلك فرنسا أُمَّ الغدر والخيانة، فإنَّنا لن نفارقَ أخلاقنا، وأخلاقَ آبائنا؛ لكي نُعينَها على آثامها ومساوئها، بل سنردُّ عليها بغيَها مهما لَقِينا في ذلك مِن سوء أخلاقها، وقُبح فعالها.
ونحن لا نعلم علمًا يقينًا ماذا فعلتْ بك هذه الأمَّة الحريصة على ابتذال عِرْضها بيْن الأمم، أيَّام كنتَ في مَنْفاها، ولكن كفانا طول الاستقصاء أن نعلم أنها حَرَّمتْ على تلك الألْسنة العربية الصغيرة في أبنائك أن تعرفَ منطقَ آبائها وأسلافها، فقد اضطرتْها بجبروتها وقسوتها أن تتجافَى عن الكلمة العربية التي تمثِّل للعربي أمجادَ أمَّته في ألفاظٍ مِن نور هذه اللغة الشريفة.
وسيقولون: إنَّكَ أنتَ الذي أردتَ لأبنائك أن يَنشؤوا على ذلك اللِّسان الفَرنسي، ولكن كذَبُوا، فما مِن عربي يُطيق أن يدعَ أبناءَه الأحرار في أسْر لُغة أخرى غير اللُّغة الحُرَّة التي عاش عليها آباؤهم وأجدادهم.
ولستُ أشكُّ في أنهم قد اتَّخذوا لذلك كلَّ وسيلة، حتى لم يدعوا لك حِيلةً تدفع بها عن قلْبك حسرةَ الأب العربي وهو يرى أبناءَه ينشؤون غرباءَ على لسان أُمَّهاتهم اللاتي أرضعنَهم بدَرٍّ عربي حُرٍّ، آبٍ للضَّيْم، طالب للعِزَّة والشرف والنُّبل.
وقد أراد الله غيرَ ما أرادوا، فها أنتَ اليوم بيْن أهلك وعشيرتك مِن أهل مصر، وهؤلاء أبناؤك هم أهلُنا وإخوتنا، وهذه مصر بلادهم، لهم فيها ما لنا، فعَن قليل يهدم اللِّسانُ العربي ذلك اللسانَ الفرنسي، ويرتد العربي عربيًّا، كمَا أراد الله له أن يكون، كما ردَّك الله حرًّا كما أراد لكَ أن تكون.
وأما فرنسا فقد ردَّ الله غيظَها في صدرها، حتى يأكلَ منها ما بقي ممَّا تستطيل به على الناس.
لا تأسَ أيها الرجل على ما فات، فإنَّ في الذي لَقِيَه الناس من بعدك لعزاءً لك عمَّا لقيتَ في منفاك، وإنَّ الذي أنت فيه اليوم لهو نِعمةٌ مَنَّ الله بها عليك؛ لتحملَ مرَّةً أخرى سيفَ الجهاد في سبيل أمته، التي أنزلتْ بها فرنسا مِن بطشها ومظالمها ما لا قِبل لأحدٍ بالصبر على مثله، وقد ردَّك الله إليها؛ لترى رأيَ العين ماذا فعل بعدَك هؤلاء القومُ بقومك، ولتشهد مصارعَ الأحرار من أنصارك، ولتملأ قلبَك من القوَّة التي تَفلُّ الحديد، وتنسِف الجبال، وتجتاح الجيوش قوة الإيمان بالله، الذي لا يخذل مَن نَصَرَه ونَصَر أولياءه بالحقِّ في يوم الجهاد.
إنَّ فرنسا لم تدَعْ في تونس والجزائر ومراكش مكانًا إلا نفثَتْ فيها مِن سُمِّها، أو ضربت فيها بإبرتها[5]، أو تدسَّستْ إليه بغدرها وجهالتها.
إنَّها أُمَّة لم تَرْعَ ذِمَّةً للإنسانية، ولا للمروءة، ولا للشرف، ولا لشيء ممَّا يصير به الإنسان حيًّا متميزًا من سائرِ الوحوش والضواري، أمَّة تفتري على الناس افتراءً مقيتًا، ثم تتبجَّح على الناس باسمِ الحريَّة والإخاء والمساواة.
أُمَّة من الأذلاَّء لم يكدِ الغازي يغزو بلادَها في الحرْب الماضية حتى ألقتْ سلاحَها، وسجدتْ على مواطئ قدميه، تمسح عنهما غبارَ الغزو، ضارعةً متذلِّلة، أمَّة لم تأنف آلاف مؤلَّفة مِن أبنائها أن تطلب التجنُّس بالجنسية الألمانية يومَ أصابتْها هزيمةٌ واحدة في أوَّل حرْب تُهْزَم فيها، ولَم تستنكفْ نساؤها أن تَفتحَ الأغلاق للغُزاة، غيرَ متورِّعات، ولا كريمات.
إنَّنا أيها الأمير نُبغض هذه الأمَّة كأشدِّ ما يُبغضها دَمُك الذي يجري في عروقك؛ لأنَّنا إخوة، جمعتْنا رَحِمٌ واحدة هي العروبة، ونحن لا نخصُّها وحدَها بهذا البغض، بل نُبغض كلَّ أمَّة على غرارها قد استحلَّتْ مرعى البطش، واستطابتْ ثمار البغي والعدوان.
فنحن -العربَ- لم نُولدْ لنعيشَ، بل وُلدنا لنعيشَ أحرارًا في الدنيا، ولنعلِّمَ أهل الدنيا معنى الحريَّة، وكيف تكون الحريَّة، ولئن قعَد بنا اليوم عجزٌ عن تعليم هذه الناس، فعن قريبٍ سوف يأذن الله لنا بأنْ نأخذَ بالأسباب التي تُتيح لنا أن نعملِّهم ما خُلقْنا من أجْلِه، وعن قريب تنقشع عن عيون كثيرةٍ ضلالاتٌ كثيرةٌ، أَوْهمتْها أنَّ العرب أمَّةٌ متخلفة، قد نفض الزمن منها يديه، فصارتْ كَلاًّ وعالةً على أهل الأرض.
إنَّ العربي مِن أمثالك هو الذي سيشهد تراب هذه الأرض في يومٍ يرونه بعيدًا، ونراه قريبًا، أنَّ فضائل البشرية كلها لم تزل حيَّةً على فِطْرتها الأولى في هذه القلوب الزكيَّة المطهَّرة؛ قلوب العرب، وأنَّ العالَم سيكون أسرعَ تقبُّلاً للمعاني العربية في الحريَّة والإخاء والمساواة مِن تقبُّله لتلك المعاني الفَرنسيَّة، التي تلفعتْ بالجشع واللؤم، والغَدْر والخِداع، وأنَّ العربي هو وحْدَه الذي يستطيع أن يُحقِّق على هذه الأرض معنى الحريَّة والإخاء والمساواة؛ لأنَّه حُرٌّ بالفِطرة، لم يألفْ ذُلاًّ قط، ولأنَّه أخٌ لمن آخاه؛ لأنَّه لا يعرف الغَدْر، ولأنَّ الناس عندَه سواء؛ لأنَّه لا يفتات على أحد، ولا يفتري على سواه مِن الناس.
وأنت أيها الأمير، سيفٌ مِن سيوف الله، ونحن جُندٌ من جنود الله، فعِشْ بيننا سيفًا مصلتًا، مسلولاً على أعناق البُغاةِ، والطغاة والظلمة، حتى يأتيَ اليوم الذي كتب الله لك أن تكون فيه ذبحًا لعدوِّنا وعدوِّك، ونصرًا لأمَّتنا وأمَّتك، ومخرجًا لبلادنا وبلادِك مِن ظُلمات الأسْر إلى نور الحريَّة.
والسلام عليك ورحمة الله.
ـــــــــــــــ
[1] المُزْنَة: السحابة البيضاء المحمَّلة بالماء.
الغُرَّة: بيضاء في جبهة الفَرَس.
الأدهم: الأسود.
[2] النَّقْع: الغبار، وأكثر ما يُستعمل في الغبار الذي يُثار في المعارك.
[3] الشَّلّ: السَّوْق العنيف الشديد.
[4] بيتان: مرشال فرنسي مشهور، كان قائدَ جيوش فرنسا، ثم استسلم لجيوش المحور، وكوَّن حكومة فيشي.
[5] وكذلك تفعل العقارِب، فَسُمُّها في إبرتها
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire